فصل: الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة السادسة فيما يكتب في التذاكر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة السادسة فيما يكتب في التذاكر:

وفيه ثلاثة أضرب:
الضرب الأول عنوان التذكرة وترتيبها والتذاكر جمع تذكرة.
قال في مواد البيان: وقد جرت العادة أن تتضمن جمل الأموال التي يسافر بها الرسول ليعود إليها إن أغفل شيئاً منها أو نسيه، أو تكون حجة له فيما يورده ويصدره، قال: ولا غنى بالكاتب عن العلم بعنواناتها وترتيبها.
فأما عنوان التذكرة فيكون في صدرها تلو البسملة؛ فإن كانت للرسول يعمل عليها، قيل: تذكرة منجحة صدرت على يد فلان عند وصوله إلى فلان بن فلان، وينتهي بمشيئة الله تعالى إلى ما نص فيها، وإن كانت حجة له يعرضها لتشهد بصدق ما يورده، قيل: تذكرة منجحة صدرت على يد فلان بن فلان بما يحتاج إلى عرضه على فلان.
وأما الترتيب فيختلف أيضاً بحسب اختلاف العنوان: فإن كانت على الرسم الأول، كان بصدرها قد استخرنا الله عز وجل وندبناك، أو عولنا عليك، أو نفذناك، أو وجهناك إلى فلان: لإيصال ما أودعناك وشافهناك به من كذا وكذا ويقص جميع الأغراض التي ألفيت إليه مجملة. وإن كانت محمولة على يده كالحجة له فيما يعرضه، قيل: قد استخرنا الله عز وجل وعولنا عليك في تحمل تذكرتنا هذه والشخوص بها إلى فلان، أو النفوذ، أو التوجه، أو المصير، أو القصد بها وإيصالها إليه، وعرض ما تضمنه عليه، من كذا وكذا ويقص جميع أغراضها.
ثم قال: وهذه التذاكر أحكامها أحكام الكتب في النفوذ عن الأعلى إلى الأدنى، وعن الأدنى إلى الأعلى، فينبغي أن تبتنى على ما يحفظ رتب الكاتب والمكتوب إليه: فإن كانت صادرة عن الوزير إلى الخليفة مثلاً فتصدر بما مثاله قد استخرت الله تعالى، وعولت عليك في الشخوص إلى حضرة أمير المؤمنين- صلوات الله عليه- متحملاً هذه التذكرة؟ فإذا مثلت بالمواقف المطهرة، فوفها حقها من الإعظام والإكبار، والإجلال والوقار، وقدم تقبيل الأرض والمطالعة بما أشاء مواصلته من شكر نعم أمير المؤمنين الضافية علي، المتتابعة لدي، وإخلاصي لطاعته، وانتصابي في خدمته، وتوفيري على الدعاء بثبات دولته، وخلود مملكته، وطالع بكذا وكذا وعلى هذا النظام إلى آخر المراتب، يعني مراتب المكاتبات.
قال: والذي جرى عليه اصطلاح كتاب الزمان في التذاكر أن التذكرة تكتب في قطع الشامي، تكسر فيها الفرخة الكاملة نصفين، وتجعل دفتراً وورقة إلى جنب أخرى لا كراسة بعضها داخل بعض، وتكون كتابتها بقلم الرقاع، وتكون البسملة في أعلى باطن الورقة الأولى ببياض قليل من أعلاها وهامش عن يمينها؛ ثم يكتب السطر التالي من التذكرة على سمت البسملة ملاصقاً لها، ثم يخلى قدر عرض إصبعين بياضاً ويكتب السطر التالي، ثم يخلى قدر إصبع بياضاً ويكتب السطر التالي؛ ويجري في بافي الأسطر على ذلك حتى يأتي على آخر الورقة، ثم يكتب باطن الورقة التي تليها كذلك، ثم ظاهرها كذلك، ثم الورقة الثانية فما بعدها على الترتيب إلى آخر التذكرة، ثم يكتب إن شاء الله تعالى ثم التاريخ، ثم الحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الحسبلة، على نحو ما تقدم في المكاتبات والولايات وغيرها على ما تقدم بيانه في المقالة الثالثة في الكلام على الخواتم.
وهذه نسخة تذكرة أنشأها القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، سيرها صحبة الأمير شمس الدين الخطيب: أحد أمراء الدولة الصلاحية إلى أبواب الخلافة ببغداد في خلافة الناصر لدين الله، وهي: تذكرة مباركة، ولم تزل الذكرى للمؤمنين نافعة، ولغوارض الشك دافعة، ضمنت أغراضاً يقيدها الكتاب، إلى أن يطلقها الخطاب. على أن سائر سيار البيان، والرسول يمضي على رسل التبيان؛ والله سبحانه يسدده قائلاً وفاعلاً، ويحفظه بادئاً وعائداً ومقيماً وراحلاً.
الأمير الففيه شمس الدين خطيب الخطباء- أدام الله نعمته، وكتب سلامته، وأحسن صحابته- يتوجه بعد الاستخارة ويقصد دار السلام، والخطة التي هي عش بيضة الإسلام، ومجتمع رجاء الرجال، ومتسع رحاب الرحال؛ فإذا نظر تلك الدار الدار سحابها، وشافه بالنظر معالم ذلك الحرم المحرم على الخطوب خطابها، ووقف أمام تلك المواقف التي تحسد الأرجل عليها الرؤوس، وقام بتلك المنازل التي تنافس الأجسام فيها النفوس- فلو استطاعت لزارت الأرواح محرمة من أجسادها، وطافت بكعبتها متجردة من أغمادها- فليمطر الأرض هناك عناً قبلاً تخضلها، بأعداد لا نحصلها؛ وليسلم عليها سلاماً نعتده من شعائر الدين اللازمة، وسنن الإسلام القائمة، وليورد عنا تحية يستنزلها من عند الله تحية مباركة طيبة، وصلاة تخترق أنوارها الأستار المحجبة، وليصافح عنا بوجهه صفحة الثرى، وليستشرف عنا بنظره فقد ظفر بصباح السرى، وليستلم الأركان الشريفة، فإن الدين إليها مستند، وليستدم الملاحظات اللطيفة، فإن النور منها مستمد؛ وإذا قضى التسليم وحق اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثاً يفترى، وجواري أمور إن قال منها كثيراً فأكثر منه ما جرى، وليشرح صدراً منها لعله يشرح منا صدراً، وليوضح الأحوال المستسرة فإن الله لا يعبد سراً:
ومن الغرائب أن تسير غرائب ** في الأرض لم يعلم بها المأمول

كالعيس أقتل ما يكون لها الظما ** والماء فوق ظهورها محمول

فإنا كنا نقتبس النار بأيدينا، وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدينا، وغيرنا يستمير، ونلقى السهام بنحورنا، وغيرنا يغير التصوير، ونصافح الصفاح بصدورنا، وغيرنا يدعي التصدير، ولا بد أن نسترد بضاعتنا، بموقف العدل الذي ترد به الغصوب، ونظهر طاعتنا، فنأخذ بحظ الألسنة كما أخذنا بحظ القلوب؛ وما كان العائق إلا أنا كنا ننظر ابتداء من الجانب الشريف بالنعمة، يضاهي ابتداءنا بالخدمة، وإيجاباً للحق، يشاكل إيجابنا للسبق، إلى أن يكون سحابها بغير يد مستنزلاً، وروضها بغير غرس مطفلاً.
كان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتح الفتوحات مباشرين بأنفسنا ونجاهد الكفار متقدمين لعساكره نحن ووالدنا وعمنا؛ فأي مدينة فتحت، أو معقل ملك، أو عسكر للعدو كسر، أو مصاف للإسلام معه ضرب، فما يجهل أحد، ولا يجحد عدو، أنا نصطلي الجمرة، ونملك الكسرة، ونتقدم الجماعة، ونرتب المقاتلة، وندبر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها.
وكانت أخبار مصر تتصل بنا الأحوال عليه فيها من سوء التدبير، ومما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النظام قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كل قائم بها وقعد، والفرنج قد احتاج من يدبرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة، وأن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة، فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة، فإنها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضلالات فيها على ما يفتى منها بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تتخذ من دون الله تعظم وتفخم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غره تقلب الذين كفروا في البلاد.
فسمت هممنا دون همم ملوك الأرض إلى أن نستفتح مقفلها ونسترجع للإسلام شاردها ونعيد على الدين ضالته منها فسرنا إليها بعساكر ضخمة، وجموع جمة، وبأموال انتكهت الموجود، وبلغت منا المجهود، وأنفقناها من خالص ذممنا وكسب أيدينا، ومن أسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا، فعرضت عوارض منعت وتوجهت للمصريين حيل باستنجاد الفرنج تمت: ولكل أجل كتاب، ولكل أمل باب.
وكان في تقدير الله سبحانه أنا نملكها على الوجه الأحسن، ونأخذها بالحكم الأقوى الأمكن، فغدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أن استئصال كلمة الإسلام محطها، وكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون من الشام في هذا الأوان، بأنا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج من اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم يمهل إلى الغد؛ فسرنا بالعساكر الموجودة والأمراء الأهل المعروفة إلى بلاد قد تمهد لنا بها أمران، وتقرر لنا فيها في القلوب ودان: الأول لما علموه من إيثارنا المذهب الأقوم، وإحياء الحق الأقدم، والآخر لما يرجونه من فك إسارهم، وإقالة عثارهم؛ ففعل الله ما هو ما هو أهله، وجاء الخبر إلى العدو فانقطع حبله، وضاقت به سبله، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها وبلادها وإقليمها قد نفذت فيها أوامره، وخفقت عليها صلبانه، وأمن من أن يسترجع ما كان بأيديهم حاصلاً، وأن يستنفذ ما صار في ملكهم داخلاً، ووصلنا البلاد بها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السر منهم أنفذ من العزيمة في الحهر. وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف رجل كلهم أغتام أعجام، إن هم كالأنعام، لا يعرفون ربا إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا ما يتوجهون إليه من ركنه. وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية موضوعة عنهم الجزية كانت لهم شوكة وشكة، وحمية وحمة، ولهم حواش لقصرهم من بين داع تلطف في الضلال مداخله، وتصيب العقول مخاتله، ومن بين كتاب أقلامهم تفعل أفعال الأسل، وخدام يجمعون إلى سواد الوجود سواد النحل، ودولة قد كبر عليها الصغير، ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع خطرات الضمير، فكيف لحظات التدبير.
هذا إلى إستباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة جارية، وتحريف للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله في التنزيل، وكفر سمي بغير اسمه، وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه.
فما زلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار، ونتحيفهم تحيف الليل والنهار للأعمار، بعجائب تدبير، لا تحتملها المساطير، وغرائب تقرير، لا تحملها الأساطير، ولطف توصل ما كان في حيلة البشر ولا قدرتهم إلا إعانة المقادير، وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج دفعة إلى بلبيس، ودفعة إلى دمياط، في كل منهما وصلوا بالعدو المجهر، والحشد الأوفر وخصوصاً في نوبة دمياط فإنهم نازلوها بحراً في ألف مركب مقاتل وحامل، وبراً في مائتي ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباركونها ويراحمونها، ويماسونها ويصابحونها، القتال الذي يصليه الصليب، والقراع الذي ينادي به من مكان قريب، ونحن نقاتل العدوين: الباطن والظاهر، ونصابر الضدين: المنافق والكافر، حتى أتى الله بأمره، وأيدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريين ومن الفرنج ومن ملك الروم ومن الجنويين وأجناس الروم لأن أنفارهم تنافرت، ونصارهم تناصرت، وأناجيل طواغيتهم رفعت، وصلب صلبوتهم أخرجت، وشرعنا في تلك الطوائف من الأجناد والسودان والأرمن فأخرجناهم من القاهرة تارة بالأوامر المرهقة لهم، وبالذنوب الفاضحة منهم، وبالسيوف المجردة وبالنار المحرقة، حتى بفي القصر ومن به من خدمه قد تفرقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخفيت ضلالته؛ فهنالك تمت لنا إقامة الكلمة والجهر بالخطبة والرفع للواء السواد الأعظم، والجمع لكلمة السواد الأعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بفنائه، وبرأنا من عهده يمين كان حنثها أيسر من إثم إبقائه، إلا أنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته.
ولما خلا ذرعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار، فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها براً وبحراً، ومركباً وظهراً، إلى أن أوسعناهم قتلاً وأسراً وملكنا رقابهم قهراً وقسراً، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أخذت من أيديهم، وما أوجفت فيها خيلهم ولا ركابهم مذ ملكها أعاديهم؛ فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، زمنها ما استولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة كان العدو قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم فسبى منه خلقاً، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقاً، فكادت القبلة أن يستولي على أصلها، ومساجد لله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل صلوات الله عليه أن يقوم به من ناره غير برد وسلام، ومضجع الرسول شرفه الله أن يتطرقه من لاغ يدين بما جاء به من الإسلام، ففتح الله هذه القلعة وصارت معقلاً للجهاد، وموئلاً لسفار البلاد، وغيرهم من عباد العباد؛ فلو شرح ما تم بها للمسلمين من الأثر الجليل، وما استد من خلاتهم، وأحرق من زروع المشركين ورعي من غلاتهم، إلى أن ضعفت ثغورهم، واختلت أمورهم، لا حتيج فيه إلى زمن يشغل عن المهمات الشريفة لسماع مورده، وإيضاح مقصده. وكان باليمن ما علم من ابن المهدي الضال وله آثار في الإسلام، وثار طالبه النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه سبى الشرائف الصالحات وباعهن بالثمن البخس، واستباح منهن كل ما لا تقر عليه النفس، وكان ببدعه دعا إلى قبر أبيه وسماه كعبة، وأخذ أموال الرعايا المعصومة وأجاحها، وأحل الفروج المحرمة وأباحها، فأنهضنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلفنا له نفقات واسعة، وأسلحة رائعة، وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القصد، ووردتنا كتب عساكرنا وأمرائنا بما نفذ في ابن مهدي وبلاده المفتتحة ومعاقله المستضافة؛ والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سارية، وإلى ما لم يفتض الإسلام عذرته مذ أقام الله كلمته متمادية.
ولنا في المغرب، أثر أغرب، وفي أعماله أعمال دون مطلبها كما يكون المهلك دون المطلب؛ وذلك أن بني عبد المؤمن قد اشتهر أن أمرهم أمر، وملكهم قد عمر، وجيوشهم لا تطاق، وأوامرهم لا تشاق، ونحن والحمد لله قد ملكنا مما يجاورنا منه بلاداً تزيد مسافتها على شهر، وسيرنا عسكراً بعد عسكر رجع بنصر بعد نصر، ومن البلاد المشاهير، والأقاليم الجماهير- لك- برقة- قفصة- قسطيلية- توزر؛ كل هذه تقام فيها كل هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بالله سلام الله عليه، ولا عهد للإسلام بإقامتها، وتنفذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها. وفي هذه السنة كان عندنا وفد وقد شاهده وفود الأمصار، مقداره سبعون راكباً كلهم يطلب لسلطان بلده تقليداً، ويرجوا منا وعداً ويخاف وعيداً.
وقد صدرت عنا بحمده الله تقاليدها، وألقيت إلينا مقاليدها، وسيرنا الخلع والألوية، والمناشير بما فيها من الأوامر والأقضية.
وأما الأعداء الذين يحدقون بهذه البلاد، والكفار الذين يقاتلونها بالممالك العظام والعزائم الشداد، فمنهم صاحب قسطنطينية وهو الطاغية الأكبر، والجبار الأكفر، وصاحب المملكة التي أكلت على الدهر وشربت، وقائم النصرانية التي حكمت دولته على ممالكها وغلبت، وجرت لنا معه غزوات بحرية، ومناقلات ظاهرية وسرية، وكانت له في البلاد مطامع منها أن يجبي خراجاً، ومنها أن يملك منه فجاجاً، وكانت غصة لا يسيغها الماء، وداهية لا ترجى لهل الله تعال الأرض بل السماء، فأخذنا ولله الحمد بكظمه، وأقمناه على قدمه، ولم نخرج من مصر، إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة في نوبتين بكتابين كل واحد منهما يظهر فيه خفض الجناح، وإلقاء السلاح، والانتقال من معاداة، إلى مهاداة، ومن مناضحة، إلى مناصحة، حتى إنه أنذر بصاحب صقلية وأساطيله التي يرد ذكرها، وعساكره التي لم يخف أمرها.
ومن هؤلاء الكفار صاحب صقلية هذا كان حين علم أن صاحب الشام وصاحب قسطنطينية قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وهزما وكسرا، أراد أن يظهر قوته المستقلة بمفردها، وعزمته القائمة بمجردها، فعمر أسطولاً استوعب فيه ماله وزمانه: فإنه إلى الآن منذ خنس سنين يكثر عدته، وينتخب عدته، ويجتلب مقاتلته إلى وصل منها في السنة الخالية إلى إسكندرية أمر رائع، وخطب هائل، ما أثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورجله؛ ما هو إقليم بل أقاليم نقله، وجيش ما احتفل ملك قط بنظيره لولا أن الله خذله؛ ولو ذهبنا نصف ما ذهب، فيه من ذهب، وما أخذ منه من سلاح وخيل وعدد ومجانيق، ومن أسر منه من خيالة كبار، ومقدمين ذوي أقدار، وملوك يقاطعون بالجمل التي لها مقدار، وكيف أخذه وهو في العدد الأكثر بالعدد الأقل من رجالنا، وكيف نصر الله عليه مع الأصعب من قتاله بالأسهل من قتالنا، لعلم أن عناية الله بالإسلام تغنيه عن السلاح، وكفاية الله لهذا الدين تكفيه مؤونة الكفاح؛ ومن هؤلاء الجنوبيين الذين يسربون الجيوش- البنادقة- البياشنة- الجنوية كل هؤلاء تارة لا تطاق ضراوة ضرهم، ولا تطفأ شرارة شرهم، وتارة يجهزون سفاراً يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الحكام المرهوبة؛ وما منهم الآن إلا من يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، وبتقرب إليها بإهداء طرائف أعماله وبلاده؛ وكلهم قد قررت معه المواصفة وانتظمت معه المسالمة، على ما نريد ويكرهون ونؤثر ولا يؤثرون.
ولما قضا الله بالوفاة النورية، وكنا في تلك السنة على نية الغزو، والعساكر قد ظهرت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج بانياس وأشرفوا على احتيازها، ورأوها فرصة مدوا إليها يد انتهازها، استصرخ بنا صاحبها للممانعة، واستنهضنا لتفريج الكرب الواقعة، فسرنا مراحل اتصل بالعدو أمرها، وعوجل بالهدنة الدمشقية التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها ولا قبل كثيرها ولا قليلها؛ ثم عدنا إلى البلاد فتوافت إلينا الأخبار بما الدولة النورية عليه من تشعب الآراء وتوزعها، وتشتت الأمور وتقطعها، وأن كل قلعة قد حصل فيها صاحب، وكل جانب قد طمح إليه طالب؛ والفرنج قد بنوا بلاداً يتحيفون يها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشامية، وأمراء الدولة قد سجن أكابرهم وعوقبوا وصودروا، والمماليك الذين للمتوفى أغرار خلقوا للأطراف لا للصدور، وجعلوا للقيام لا للجلوس في المحفل المحصور، وقد مدوا الأعين والأيدي والسيوف، وساءت سيرتهم في المر بالمنكر والنهي عن المعروف، وكل واحد يتخذ عند الفرنج يداً، ويجعلهم لظهره سنداً، ويرفع عنهم ذخيرة كانت للإسلام، ويفرج لهم عن أسير من أكابر الكفار كان مقامه مما يدفع شراً، ولا يزيد نار الكفر جمراً، وإطلاقه يجلب قطيعة تقوي إسلاماً وتضعف كفراً، فكثرت إلينا مكاتبات أهل الآراء الصائبة، ونظرنا للإسلام ولنا ولبلاد الإسلام في العاقبة، وعرفنا أن البيت المقدس إن لم تتيسر الأسباب لفتحه، وأمر الكفر إن لم يجرد العزم في قلعه، وإلا ثبتت عروقه، واتسعت على أهل الدين خروقه، وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة؛ وإنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة وكلال الدواب، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والبلاد قريبة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة، والجموع متيسرة، والأوقات مساعدة؛ وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتلة، وأمور مختلو؛ وأراء فاسدة، وأمراء متحاسدة، وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، وكفلناه كفالة من يقضي الحق ويوفيه؛ فإنا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه، ويظهرون الوفاء بخدمه وهم عاملون بظلمه، والمراد الآن هو كل ما يقوي الدولة، ويؤكد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الزلفة، ويفتح بقية البلاد، ويطبق بالاسم العباسي كل ما تخطئه العهاد- ونحن نقترح على الأحكام المعهودة، وننتظر أن يأتي الإنعام على الغايات المزيدة؛ وهو تقليد جامع لمصر والمغرب واليمن والشام، وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية، وكل ما يفتحه الله للدولة بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ وولد من بعدنا، تقليداً يضمن للنعمة تخليداً، وللدعوة تجديداً، مع ما ينعم به من السمات التي يقتضيها الملك؛ فإن الإمارة اليوم بحسن نيتنا في الخدمة تصرف بأقلامنا، وتستفاد من تحت أعلامنا، ويتبين أن أمراء الدولة النورية يحتاج إليهم في فتح البلاد القدسية ضرورة: لأنها منازل العساكر، ومجمع الأنفار والعشائر؛ فمتى لم يكن عليهم يد حاكمة، وفيهم كلمة نافذة، منعهم ولاة البلاد، وبغاة العناد.
وبالجملة فالشام لا ينتظم أمره بمن فيه، وفتح بيت المقدس ليس له قرن يقوم به ويكفيه؛ والفرنج فهم يعرفون منا خصماً لا يمل الشر حتى يملوا، وقرناً لا يزال يحرم السيف حتى يحلوا، حتى إنا لما جاورناهم في الأمد القريب، وعلموا أن المصحف قد جاء بأيدينا يخاصم الصليب، استشعروا بفراق بلادهم، وتهادوا التعازي لأرواحهم بأجسادهم؛ وإذا سدد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله ويد كل مسلم تحت برده، واستنقذنا أسيراً من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.
هذا ما لاح طلبه على قدر الزمان، والأنفس تطلب على مقدار الإحسان؛ فإن في استنهاض نيات الخدام بالإنعام ما يعود على الدولة منافعه، وتنكأ الأعداء مواقعه، وتبعث العزائم من موت منامها، وتنفض عن البصائر غبار ظلامها؛ والله تعالى ينجد إرادتنا في الخدمة بمضاعفة الاقتدار، ومساعدة الأقدار، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني ما كان يكتب لنواب السلطنة بالديار المصرية عند سفر السلطان عن الديار المصرية:
والعادة أن يكتب فيما يتعلق بمهمات الديار المصرية وأحوالها ومصالحها، وما يترتب فيها، وما يمشي على حكمه بمصر والقاهرة المحروستين، وسائر أعمال الديار المصرية، وما تبرز به المراسيم الشريفة في أمورها وقضاياها، واستخراج أموالها وحمولها، وعمل جسورها وحفائرها، وما يتجدد في ذلك، وما يجري هذا المجرى م سائر التعلقات، وتصدر بذلك التذكرة.
وهذه نسخة تذكرة سلطانية كتب بها عن السلطان الملك الصالح علي، ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، لكافل السلطنة بالديار المصرية، الأمير زين الدين كتبغا، عند سفر السلطان الملك المصور إلى الشام، واستقرار كتبغا المذكور نائباً عنه في سنة تسع وسبعين وستمائة، من إنشاء محمد بن المكرم بن أبي الحسن الأنصاري، أحد كتاب الدرج يومئذ ومن خطه نقلت؛ وهي: تذكرة نافعة، للخيرات جامعة، يعتمد عليها المجلس العالي، الأميري، الزيني، كتبغا المنصوري، نائب السلطنة الشريفة- أدام الله عزه- في مهمات الديار المصرية وأحوالها ومصالحها، وما يترتب بها، وما يبت ويفصل في القاهرة ومصر المحروستين وسائر أعمال الديار المصرية، صانها الله تعالى، وما تستخرج به المراسيم الشريفة، المولوية، السلطانية، الملكية، الصالحية الفلانية، - أنفذها الله تعالى- في أمورها وقضاياها، وولاياتها وولاتها، وحمولها وحفيرها وحفظها ومجدداتها على ما شرح فيه: فصل الشرع الشريف: يشد من حكامه وقضاته في تنفيذ قضاياه وتصريف أحكامه، والشد منه في نقضه وإبرامه.
فصل العدل والانصاف والحق يعتمد ذلك في جميع المملكة الشريفة: مدنها وقراها وأعمالها وولاياتها: بحيث يشمل الرعايا من خاص وعام، وبعيد وقريب، وغائب وحاضر، ووارد وصادر، ويستجلب الأدعية الصالحة من جميع الناس لهذه الأيام الزاهرة، ويستنطق الألسنة بذلك؛ فإن العدل حجة الله ومحجة الخير، فيدفع كل ضرر ويرفع كل ضير.
فصل الدماء يعتمد فيها حكم الشرع الشريف. ومن وجب عليه قصاص يسلم لغريمه ليقتص منه بالشرع الشريف، ومن وجب عليه القطع يقطع بالشرع الشريف.
فصل الأمور المختصة بالقاهرة ومصر المحروستين، حرسهما الله تعالى: لا يتجوه فيها أحد، ولا يقوى قوي على ضعيف، ولا يتعدى أحد على أحد جملة كافية.
فصل يتقدم بأن لا يمشي أحد في المدينة ولا ضواحيها في الحسينية والأحكار في الليل إلا لضرورة، ولا يخرج أحد من بيته لغير ضرورة ماسة، والنساء لا ينصرفن في الليل ولا يخرجن ولا يمشين جملة كافية.
فصل الحبوس تحرس وتحفظ بالليل والنهار؛ وتحلق لحى الأسارى كلهم: من فرنج وأنطاكيين وغيرهم، ويتعهد ذلك فيهم كلما تنبت، ويحترز في أمر الداخل إلى الحبوس، ويحترز على الأسارى الذين يستعملون، والرجال الذي يخرجون معهم، وتقام الضمان الثقات على الجاندارية الذين معهم، ولا يستخدم في ذلك غريب، ولا من فيه ريبة، ولا تبيت الأسارى الذين يستعملون إلا في الحبوس، ولا يخرج أحد منهم لحاجة تختص به ولا لحمام ولا كنيسة ولا فرجة، وتتفقد قيودهم وتوثق في كل وقت.
ويضاعف الحرس في الليل على خزانة البنود بإظهار ظاهرها وعلوها وحولها وكذلك خزانة الشمائل وغيرها من الجيوش.
فصل يرتب جماعة من الجند مع الطواف في المدينة لكشف الأزقة وغلق الدروب وتفقد أصحاب الأرباع، وتأديب من يخل بمركزه من أصحاب الأرباع، وتكون الدروب مغلقة. وكذلك تجرد جماعة الحسينية والأحكار وجميع المراكز، ويعتمد فيها هذا الاعتماد؛ ومن وجد في الليل قد خالف المرسوم ويمشي لغير عذر يمسك ويؤدب.
فصل الأبواب يحترز على الأبواب غاية الاحتراز، ويتفقد في الليل خارجها وباطنها وعند فتحها وغلقها.
فصل الأماكن التي يجتمع فيها الشباب وأولو الدعارة ومن يتعانى العيث والزنطرة، لا يفسح لأحد في الاجتماع بها في ليل ولا نهار، ويكفون الأكف اللئام بحيث تقوم المهابة وتعظم الحرمة، وينزجر أهل الغي والعيث والعبث.
فصل يرتب المجردون حول المدينتين بالقاهرة ومصر المحروستين على العادة، وكذلك جهة القرافة وخلف القلعة وجهة البحر، وخارج الحسينية، ولا يهمل ذلك ليلة واحدة، ولا يفارق المجردون مراكزهم إلا عند السفور وتكامل الضوء.
فصل:
يتقدم بأن لا تجتمع الرجال والنساء في ليالي الجمع بالقرافتين، ويمنع النساء من ذلك.
فصل مهمات الغائبين في البيكار المنصور تلحظ ويشد من نوابهم في أمورهم ومصالحهم، ويستخلص حقوقهم لنوابهم وغلمانهم ووكلائهم؛ ومن كانت له جهة يستخلص حقه منها ولا يتعرض إلى جهاتهم المستقرة فيما يستحقونه؛ ويقوي أيديهم، وتؤخذ الحجج على وكلائهم بما يقبضونه حتى لا يقول مؤكلوهم في البيكار: إن كتب وكلائنا وردت بأنهم لم يقبضوا لنا شيئاً، فيكون ذلك سبباً لرد شكاويهم.
فصل خليج القاهرة ومصر المحروستين يرسم بعمله وحفره وإتقانه في وقته: بحيث يكون عملاً جيداً متقناً من غير حيف على أحد، بل كل أحد يعمل ما يلزمه عملاً جيداً.
فصل جسور ضواحي القاهرة يسرع في إتقانها وتعريضها، ويجتهد في حسن رصفها وفتح مشاربها، وحفظها من الطارق عليها، تبقى متقنة مكملة إلى وقت النيل المبارك؛ ولا يخرج في أمرها عن العادة، ولا يحتمي أحد عن العمل فيها بما يلزمه؛ ويحمل الأمر في جراريفها ومقلقلاتها على ما تقدمت به المراسيم الشريفة في أمر الجسور القريبة والبعيدة.
فصل في الأعمال والولايات تتنجز الأمثلة الشريفة السلطانية، المولوية، الملكية، الصالحية، الفلانية، شرفها الله تعالى، بإتقان عمل الجسور وتجويدها وتعريضها وتفقد القناطر والتراع، وعمل ما تهدم منها وترميم ما وهى، وإصلاح ما تشعث من أبوابها، وتحصيل أصنافها التي تدعو الحاجة إليها في وقت النيل، وتعتمد المراسيم الشريفة من أن أحداً لا يعمل بالجاه، ومن وجب عليه فيها العمل يعمل على العادة في الأيام الصالحية؛ ويؤكد على الولاة في مباشرتها بنفوسهم، وأن لا يتكلموا على المشدين؛ وأي جهة حصل منها نقص أو خلل كان قبالة ذلك روح والي ذلك العمل وماله؛ ويشدد على الولاة في ذلك غاية التشديد، ويحذر أتم التحذير، وتؤخذ خطوط الولاة بأن الجسور قد أتقن عملها على الوضع المرسوم به، وأنها أتقنت ولم يبق فيها خلل، ولا ما يخشون عاقبته، ولا ما يخافون دركه، وأنها عملت على ما رسم.
فصل يتقدم إلى الولاة ويستخرج الأمثلة الشريفة السلطانية بترتيب الخفراء على ما كان الحال رتب عليه في الأيام الظاهرية: أن يرتب من البلد إلى البلد خفراء ينزلون ببيوت شعر على الطرقات على البلدين، يخفرون الرائح والغادي؛ وأي من عدم له شيء يلزمه دركه، وينادى في البلاد أن لا يسافر أحد في الليل ولا يغرر، ولا يسافر الناس إلا من طلوع الشمس إلى غروبها، ويؤكد في ذلك التأكيد التام.
فصل الثغور المحروسة يلاحظ أمورها ومهماتها، ويستخرج الأمثلة الشريفة السلطانية في مهماتها وأوالها وحفظها، والاحتراز على المعتقلين بها، والاستظهار في حفظهم، والتيقظ لمهمات الثغر، واستجلاب قلوب التجار، واستمالة خواطرهم، ومعاملتهم بالرفق والعدل حتى تتواصل التجار وتعمر الثغور، ويؤكد عليها في المستخرج وتحصيل الأموال، وأصناف الذخائر، وأصناف الخزائن المعمورة والحوائج خاناه، ويوعز إليهم بأن هذا وقت انفتاح البحر وحضور التجار وتزجية الأموال، وصلاح الأحوال، والنهضة في تكثير الحمول، ويؤكد عليهم في المواصلة بها، وأن تكون حمولاً متوفرة، وأنه لا يفرط في مستخرج حقوق المراكب الواصلة، ولا يقلل متحصلها، ولا ينقص حملها، ويسير بحملها حملاً إلى بيت المال المعمور على العادة، ويؤكد عليهم في الاستعمالات ولا يؤخر مهمها عن وقته؛ ومهما وصل من المماليك والجواري والحرير والوبر والأطلس والفضة الحجر، وأقصاب الذهب المغزول يعتمد في تحصيله العادة.
فصل يؤكد على ولاة الأعمال في استخلاص الحقوق الديوانية من جهاتها، والمواصلة بالحمول في أوقاتها، ومباشرة أحوال الأقصاب ومعاصرها في أوقاتها، واعتماد مصلحة كل عمل على ما يناسبه وتقتضيه مصلحته: من مستخرج ومستغل، ومحمول ومزدرع، ومستعمل ومنفق، ويحذرهم عن حصول خلل، أو ظهور عجز، أو فتور عزم، أو تقصير رأي، أو ما يقتضي الإنكار ويوجب المؤاخذة، ويشدد في ذلك ما تقتضيه فرص الأوقات التي ينبغي انتهازها على ما يطالعون به.
فصل أموال الخراج الديوانية يحترز عليها وتربى وتنمى، ولا يطلق منها شيء إلا بمرسوم شريف منا، ويطالع بأن المرسوم ورد بكذا وكذا ويعود الجواب بما يعتمد في ذلك.
فصل حقوق الأمراء والبحرية والحلقة المنصورة والجند وجهاتهم يستخلص أموالهم ووكلاءهم، ويوجد الشهادات بما عليهم من غلة ودراهم، وغير ذلك، ولا يحوج الوكلاء إلى شكوى منهم تتصل بمن هو في البيكار، ويحسم هذه المادة، ويسد أبواب المماطلة عنهم.
فصل:
يتقدم إلى الولاة والنظار والمستخدمين بعمل أوراق بما يتحصل للمقطعين الأصلية في كل بلد، ولمقطع الجهة، ولمن أفرد له طين بجهة، ولمن جهته على الرسوم: ليعلم حال المقطعين في هذه السنة الجيشية الجهاتية وما تحصل لكل منهم، ولا يحصل من أحد من الولاةمكاشرة ولا إهمال، ولا يطمع في الوكلاء لأجل غيبة الأمراء والمقطعين في البيكار، ولا يحوج أحد من المقطعين إلى شكوى بسبب متأخر ولا ظليمة ولا إجحاف.
فصل إذا خرج جاندار من مصر إلى الأعمال لا يعطى في العمل أكثر من درهمين نقرة، ويوصل الحق الذي جاء فيه لمستحقه؛ فإن حصل منه قال وقيل أو حيف أو تنعت يرسم عليه، ويسير الحق مع صاحبه معه، ويطالع بأن فلاناً الجاندار حضر وجرى منه كذا وكذا، ويشرح الصورة ليحسم المواد بذلك.
فصل إذا سير أحد من الولاة رسولاً بسبب خلاص حق من بعض قرى أعماله فيكون ما يعطى الجاندار عن مسافة سفر يوم نصف نقرة، وعن يومين درهم واحد لا غير؛ وأي جاندار تعدى وأخذ عير ذلك يؤدب ويصرف من تلك الولاية.
فصل تكتب الحجج على كل وكيل يقبض لمخدومه شيئاً من مغله أو جهته: من الديوان أو الفلاحين، ولا يسلم له شيء إلا بشهادة بحجج مكتتبة عليه، تخلد منها حجة الديوان المعمور بما قبضه من جهته أو إقطاعه، وتبقى الحجج حاصلة حتى إذا شكا أحد إلينا وسيرنا عرفناهم بمن يشكو من تأخر حقه، يطالعوننا بأمر وكيله وما قبض من حقه، وتسير الشهادة عليه طي مطالعته، ويحترز من الشهادات بما وصل لكل مقطع، حتى إنا نعلم من مضمون الحجج والشهادات متحصل المقطعين من البلاد والجهات مفصلاً وجملة ما حصل لكل منهم: من عين وغلة وما تأخر لكل منهم، ويعمل بذلك صورة أمور البلاد والمقطعين وأحوالهم، ويزيل شكوى من تجب إزالة شكواه، وتعلم أحوالهم على الجلية.
فصل تقرأ هذه التذاكر على المنابر فصلاً فصلاً، ليسمعها القريب والبعيد، ويبلغها الحاضر والغائب، ويعمل بمضمونها كل أحد؛ ومن خرج عنها أو عمل بخلافها فهو أخبر بما يلقاه من سطوتنا وشدة بأسنا؛ والسلام.
الضرب الثالث ما كان يكتب لنواب القلاع وولاتها إما عند استقرار النائب بها، وإما في خلال نيابته: والعادة فيها أن يكتب فيها باعتماد الكشف عن أحوال القلعة وأسوارها وعرض حواصلها، ومقدمي رجالها، وترتيب الرجال في مراكزهم، وكشف مظالم الرعايا، والنظر في الاحتراز على القلعة وعلى أبوابها، والاحتفاظ بمفاتيحها على العادة، وتحصيل ما يحتاج إليه فيها من الزاد والحطب والملح والفحم وغير ذلك، والمطالعة بمتجددات الأخبار.
وهذه نسخة تذكرة كتب بها عن السلطان الملك المنصور قلاوون بسبب قلعة صرخد من الشام، عند استقرار الأمير سيف الدين باسطي نائباً، والأمير عز الدين والياً بها في سنة تسع وسبعين وستمائة، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية؛ وهي: تذكرة مباركة نافعة، لكثير من المصالح جامعة، يعتمد عليها الأميران: سيف الدين وعز الدين عند توجههما إلى قلعة صرخد المحروسة: يعتمدان العدل في الرعية، وسلوك منهج الحق في كل قضية، واعتما ما يرضي الله تعالى ويرضينا؛ وليكن الإنصاف لهما عقيدة والتقوى ديناً، ولا يتطلع أحدهما إلى ما في يد أحد من مال ولا نشب، ولا يعارض أحد أحداً بلا سبب، وليتقوا الله ويخشوه، ويتجنبوا الباطل ولا يغشوه، ولا يظن أحد منهم أن قد بعد عنا فيطمع إلى الظلم أو يطمع، فإنا منهم بمرأى ومسمع، وليكونوا على المصالح متفقين، وبأذيال الحق متعلقين، وعلى الرعية مشفقين.
فصل: يتقدمان بكشف أسوار القلعة المنصورة وأبراجها وبدناتها وأبوابها، وما يحتاج إلى إصلاح وترميم وعمارة، ويحرران أمر ذلك تحريراً، ويجتهدان في إصلاح ما يجب إصلاحه وترميم ما يجب ترميمه، والمطالعة بما كشفاه وما اعتمداه.
فصل:
يتقدمان بعرض حواصل القلعة المنصورة، والخزانة المعمورة، ويحققون ما بها من الأموال والغلال والذخائر والحواصل، ويعملون بذلك أوراقاً محررة، ويسيرون نسختها إلى الباب الشريف.
فصل: يتقدمان بعرض مقدمي رجال القلعة، وأرباب الجامكيات والرواتب بها، ويحرران أمر مقرراتهم: من جامكية وجراية، ويجريان في صرف ذلك على العادة الجارية المستقرة.
فصل: يستوضحان من الأمير عز الدين والأمير علم الدين المنصرفين عن المصالح المختصة بهذه القلعة وعن أمورها، جليلها وحقيرها، فإنهما قد أحسنا في ذلك التدبير، وأجملا التأثير، وسلكا أجمل مسلك، ويهتديان بما يوضحانه لهما من المصالح والمهمات ليكون دخولهما في هذا الأمر على بصيرة.
فصل: يكون أمر النيابة والحكم العام في القلعة المنصورة، وتنزيل الرجال واستخدامهم وصرف من يجب صرفه- للأمير سيف الدين باسطي بمشاركة الأمير عز الدين في أمر الرجال والاستخدام والصرف، ويكون أمر النيابة راجعاً للأمير سيف الدين باسطي والحكم فيها له، ويكون أمر ولاية القلعة للأمير عز الدين، ويجريان في ذلك على عادة من تقدمها في هذه النيابة والولاية؛ ويكون الأمير سيف الدين في الدار التي يسكنها الأمير عز الدين؛ وحكمه في النيابة كحكمه؛ ويسكن الأمير عز الدين في الدار التي كان يسكن فيها الأمير علم الدين، وحكمه في الولاية كحكمه. ولا يتعدى أحد طوره، ولا يخرج عما قرر فيه، ويرعى كل منهما لصاحبه حقه فيما رتب فيه، ويتفقان على المصالح كلها، ويكونان كروحين في جسد واحد.
فصل: يتقدمان بأن يترتب الرجال في مراكزهم ومنازلهم على العادة في الليل والنهار، والحرسية على العادة في الليل والنهار. وإن كان ثم خلل في ذلك أو تفريط أو إهمال، فليستدرك الفارط ويرتب الأمر فيه على أحسن ترتيب.
فصل: ينتصبان في أوقات العادة في باب القلعة لكشف مظالم الرعية في القلعة والبر، ويعتمدان إنصافهم، وتلبية داعيهم، وسماع كلمهم، وكف ظالمهم وإعانة مظلومهم، واعتماد ما يجب من العدل وبسطه في الرعية، وكف الأيدي العدية.
فصل: أبواب القلعة إذا أغلقت في كل ليلة تبيت المفاتيح عند النائب في المكان المعتاد بعد ختم الوالي عليها على العادة؛ وإذا تسلمها يتسلمها بختمها على العادة.
فصل: الذخائر والغلال يجتهد في تصليحها بالقلعة؛ ولا تخزن غلة جديدة على غلة عتيقة. وكل هري يخزن فيه غلة يحرر أمرها وتشال عينتها في كيس وتجعل في الخزانة ويختم عليها؛ ولا يصرف من الجديد قبل نفاد العتيق، ولا يترك العتيق ويصرف من الجديد. وكذلك بقية الحواصل يسلك فيها هذا المسلك.
فصل: مهما جرت العادة بتثمينه على أرباب الجامكيات والمقررات، فليجر الأمر فيه على العادة من غير حيف، وليخل الديوان والمباشرون في التثمين لئلا يسلك أمر التثمين على الرجالة والضعفاء مع قلة معلومهم ويوفر من ذلك أرباب الدواوين مع كثرة معلومهم، بل يكونوا أول من يثمن عليه؛ ومن لا قدرة له: مثل راجل ضعيف أو رب معلوم قليل، فليرفق به في ذلك، نظراً في حق الضعفاء.
فصل: يكثرون من الأحطاب ومن الفحم والملح بالذخائر، وكذلك من كل ما تدعو الحاجة إليه، ويجتهدون في تحصيل الأموال وتوفيرها بالخزانة المعمورة: بحيث لا يكون لهما شغل يشغلهما عن ذلك، بل يصرفان الهمة في غالب أوقاتهما إلى الفكرة في مال يحصلونه، أو صنف يدخرونه، ولا يهملان ذلك.
فصل: يطالعان الأبواب العالية في غالب أوقاتهما بما يتجدد عندهم من المصالح، وبما يتميز من الأموال، وبما حمل إلى الخزائن وإلى الأهراء من الأموال والغلال. وكذلك يطالعان نائب السلطنة بدمشق المحروسة على العادة في ذلك؛ ولتكن مطالعتهما جامعة وعليها خطهما. ومن لاحت له مصلحة في بعض الأوقات واختار أن يطالع بانفراده فليطالع.
فصل: لا يمكنان أحداً من الرجال المرتبين بالقلعة المحروسة وأرباب النوب أن يخل بنوبته ولا يفارقها، ولا يخرج من القلعة أحد من الرجال إلا بدستور ويعود في يومه والله الموفق.
قلت: وبالجملة فالتذاكر منوطة بحال المكتوب له التذكرة، والمكتوب بسببه؛ فيختلف الحال باختلاف الأسباب، ويؤتى لكل تذكرة بفصول تناسبها بحسب ما تدعو الحاجة إليه.
واعلم أن اللائق بالتذاكر الخارجة من ديوان الإنشاء أن تكون في الفصاحة والبلاغة على حد الرسائل، فيعلو شأن التذكرة باعتبار اشتمالها عل الفصاحة والبلاغة، وينحط بفواتهما؛ وانظر إلى تذكرة القاضي الفاضل المبتدأ بها؛ وما اشتملت عليه من الفصاحة والبلاغة، وأين هي من التذكرتين اللتين بعدها؛ فإنه قد أهمل فيهما مراعاة الفصاحة والبلاغة جملة، بل لم تراع في الأخيرة منهما قوانين النحو، إذ يكون يتكلم بصيغة التثنية على سياق ما عقدت له التذكرة لاشتمالها على اثنين فإذا هو قد عدل إلى لفظ الجمع، ثم يعود إلى لفظ التثنية؛ هذا، وهي منسوبة إلى القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، صاحب ديوان الإنشاء يومئذ، وهو من بيت الكتابة والبلاغة، إلا أنه قد يريد بعدوله من التثنية إلى الجمع أن ينتقل إلى خطاب جمع المتحدثين في القلعة فيما يتعلق بذلك الفصل الذي يكون فيه، وإلا فلا يجوز صدور مثل ذلك عنه وتكرار المرة بعد الأخرى.